بقلم : أيمن محمد بونري.
لطالما تميزت العلاقات بين دول الشمال ودول الجنوب بتفاوتات كبيرة تجلت في عقود من المساعدات الاقتصادية، ولكن أيضاً في أنماط من الاستغلال الاقتصادي وإساءة استخدام النفوذ. فالنموذج التقليدي للتعاون، الذي يركز على تقديم المساعدات مقابل استثمارات مسيطر عليها من قبل الدول الصناعية، غالباً ما صاحبته سياسات تكرس التبعية وتضعف القدرات الإنتاجية للدول النامية. وفي هذا السياق، جاءت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب بمثابة فرصة لإعادة تعريف العلاقة الاقتصادية بين فرنسا والمغرب، وطرح رؤية تعاونية جديدة تعتمد على “الشراكة المتكافئة” التي تهدف إلى تعزيز التنمية المستدامة، وبناء فرص حقيقية لكلا البلدين برؤية رابح-رابح.
التوطين المشترك والصناعة منخفضة الكربون: استراتيجية متكاملة نحو تنمية مستدامة
في ظل التحول العالمي نحو تقليل الانبعاثات الكربونية وتحقيق الاستدامة البيئية، برز مفهوم “التوطين المشترك” كإطار حديث ومبتكر للتعاون بين الدول الصناعية المتقدمة، مثل فرنسا، والدول النامية مثل المغرب. هذا المفهوم، الذي تم تسليط الضوء عليه في منتدى الأعمال المغربي-الفرنسي الذي تزامن مع الزيارة الرسمية، يتمحور حول بناء سلاسل إنتاج تكاملية تتيح نقل جزء من عملية الإنتاج إلى المغرب، مع احتفاظ فرنسا بأدوار استراتيجية في الإدارة والتوجيه. ويتيح التوطين المشترك لكلا البلدين الاستفادة من مزاياهما النسبية؛ حيث يستفيد من البنية التحتية للطاقة النظيفة والسياسات الطموحة للمغرب في مجال الطاقة المتجددة، مما يسهم في تقليل الانبعاثات الكربونية ودعم الاستدامة البيئية، ويعزز من تنافسية المنتجات المصنعة وفقاً للمعايير الأوروبية للحد من الكربون.
أحد الجوانب المهمة التي يعالجها هذا المفهوم هو التغلب على التحديات التقليدية المرتبطة بالترحيل الصناعي؛ إذ كانت هذه العملية تؤدي غالباً إلى فقدان الوظائف في الدول الصناعية، مما أثار انتقادات واسعة. في الوقت نفسه، كانت الدول النامية تُعتبر مواقع لاستغلال اليد العاملة بتكلفة منخفضة مع تأثيرات سلبية على اقتصاداتها المحلية. إلا أن التوطين المشترك يهدف إلى تحويل هذا النموذج إلى شراكة متكافئة تُعزز من القدرات الصناعية والتقنية في الدول النامية، مثل المغرب، بحيث يتم تطوير المهارات التقنية لدى العمال المحليين وتوفير فرص عمل جديدة.
“صُنع مع المغرب”: نحو شراكة متكاملة ومساهمة محلية في الإنتاج
في ختام المنتدى الاقتصادي المغربي-الفرنسي، الذي نظمه الاتحاد العام لمقاولات المغرب بالتعاون مع حركة الشركات الفرنسية الدولية، تم تقديم مفهوم “صُنع مع المغرب” من قبل مجموعة من المتحدثين والمشاركين من الجانبين. وكان الهدف من هذا الشعار تجاوز الحدود التقليدية لمفهوم “صُنع في المغرب” للوصول إلى شراكة اقتصادية تعاونية أعمق تربط بين البلدين.
استخدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا المصطلح كمثال على الرؤية المشتركة للانتقال من مفهوم التصنيع المحلي البسيط إلى شراكة أوسع تُبنى على الابتكار والتنمية المشتركة. ويهدف هذا الشعار إلى خلق قيمة اقتصادية مضافة، بحيث يكون المغرب جزءاً أساسياً في مراحل التصميم والإنتاج، وليس مجرد موطن للتصنيع النهائي، ما يعبر عنه في الشعار المطوّر “صُنع وصُمم مع المغرب”.
نقل التكنولوجيا ومواجهة هجرة الكفاءات
في ظل التحديات المعقدة التي تواجهها دول الشمال، مثل فرنسا، فيما يتعلق بقضايا الهجرة والاندماج، ومعاناة دول الجنوب، مثل المغرب، من هجرة الكفاءات والموارد البشرية، يبرز مفهوم نقل التكنولوجيا كحل مبتكر وفعال. يتكامل هذا المفهوم مع استراتيجيات التوطين المشترك و”صنع مع المغرب”، مما يعكس رؤية جديدة للعلاقات الاقتصادية بين الشمال والجنوب.
إن نقل التكنولوجيا لا يقتصر فقط على توفير الأدوات والمعدات للدول النامية، بل يشمل أيضاً تبادل المعرفة والمهارات التي تعزز من القدرات المحلية. من خلال هذه العملية، تستطيع الدول الجنوبية تطوير صناعات محلية قادرة على جذب الكفاءات، مما يقلل من الرغبة في الهجرة نحو دول الشمال. في الوقت نفسه، يسهم هذا النهج في مساعدة الدول الشمالية على التعامل مع التحديات الناتجة عن إدماج المهاجرين، حيث يصبح من الممكن استغلال الخبرات والكفاءات المتاحة في بلدانهم الأصلية.
إن زيارة الرئيس ماكرون للمغرب تمثل نموذجاً لرؤية جديدة للعلاقات الاقتصادية بين الشمال والجنوب، تتجاوز السياسات التقليدية لتقدم رؤية تقوم على شراكة متوازنة، ومستدامة، ومبنية على تحقيق المنفعة المتبادلة.