أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد، مساء يوم الأحد الفارط، عن تفعيله لمقتضيات ومضامين الفضل 80 من الدستور التونسي، فهل احترم مضامينه؟.
بموجب هذا الفصل جمد رئيس الجمهورية عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن نوابه. والأكثر من هذا تعهده بملاحقة “المفسدين” والتعامل معهم بالحزم المطلوب. سنناقش القرار من زاوية دستورية، لكن لفهم أبعاده سنناقش جوانبه السياسية وأبعاده الاستراتيجية.
انقسمت الآراء بخصوص هذه الخطوة ما بين مؤيد ومعارض، ومعه الشارع التونسي. وفي مقدمة المعارضين رئيس البرلمان راشد الغنوشي، الذي وصف القرار بأنه انقلاب على الثورة والدستور. فهل الأمر كذلك؟ الحكم والفيصل هو منطوق الفصل 80 من الدستور التونسي في ظاهره وباطنه.
يقول الفصل 80 من الدستور في فقرته الأولى بخصوص الإجراءات الاستثنائية، على أنه “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن التدابير في بيان إلى الشعب”.
أي أن الدستور يشترط على رئيس الجمهورية لكي يعلن عن حالة الاستثناء وجود خطر داهم يهدد كيان الوطن وأمنه، وبموجب ذلك يتعذر السير العادي لدواليب الدولة. وهنا الأمر خاضع لعملية تقييم وتشخيص حقيقي للوضع. هل البلاد تمر فعلا بخطر داهم؟ وهذا التقييم خلافي إلى حد كبير. ثم هل الحكومة وأجهزة الدولة أصبح يتعذر عليها الاشتغال بشكل عادي. وفي هذه النقطة تحديدا لا خلاف على أن الحكومة، إلى حدود ساعة اتخاذ القرار، كان بمقدورها أن تدير أجهزة الدولة بشكل طبيعي واعتيادي. ورغم ذلك يحتفظ الرئيس وحده بالصلاحية المطلقة لتقدير خطورة الوضع، غير أن الفقرة الأولى من الفصل 80 اشترطت عليه القيام بإجراء شكلي، ألا وهو استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، مع إخبار رئيس المحكمة الدستورية، دون أن يجبره الدستور على ضرورة العمل بمشورتهم. إنه إجراء شكلي من جهة، ومن حهة أخرى إجراء يهدف إلى خلق توافق بين جميع الأطراف الفاعلة حماية للجبهة الداخلية، مادام أن أصل اتخاذ قرار إعلان حالة الاستثناء هو وجود خطر داهم، وبالتالي من الخطورة بمكان أن يحدث انقسام داخلي. والخطر الداهم صنفين: داخلي و/أو خارجي.
الفصل 80 لم يمنح شيكا على بياض لرئيس الجمهورية، فتحسبا لتغول مؤسسة رئاسة الجمهورية وتجبرها، حرص المشرع الدستوري في الفقرة الثانية من الفصل 80 على الحفاظ على نوع من التوازن بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، هكذا نصت الفقرة الثانية على ما يلي: “يجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعدّ مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طوال هذه المدة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حلّ مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة”. في هذه النقطة تحديدا خرق رئيس الجمهورية، الذي هو في الأصل أستاذ للقانون الدستوري، الدستور نفسه، إذ أقدم على تجميد البرلمان، الذي تحتل فيه حركة النهضة المرتبة الأولى، ورفع الحصانة عن نوابه. نحن نتحدث عن برلمان له تميزه عن معظم برلمانات المنطقة العربية، مع استثناء البرلمان الكويتي والبرلمان المغربي في حدود معينة، هو برلمان نابع عن انتخابات نزيهة وديمقراطية يعكس روح الإرادة الشعبية في تونس.
هنا على هذا المستوى الأمر جد واضح، قرار رئيس الجمهورية دستوريا يعد انقلابا على مضامينه. وهذه الخطوة لم يكن ليقدم عليها أستاذ القانون الدستوري سابقا إن لم تكن المؤسسة العسكرية في صفه، وهو قرار لم يتخذه إلا بعد ترؤسه لاجتماع “طارئ” جمعه بقيادات عسكرية وأمنية بقصر قرطاج. من هذه الزاوية، الأمر لا غبار عليه إنه انقلاب عسكري على يد شخص مدني.
مثل هذا القرار الاستراتيجي لا يتخذ بين عشية وضحاها، بل يتطلب دراسة عميقة لأبعاده ونتائجه، وينبغي تهيئة المبررات والظروف المحفزة لذلك. لهذا ينبغي العودة إلى الوراء، والتأمل في خريطة الزيارات الأخيرة لرئيس الجمهورية تشكل مفتاحا لفهم الأطراف الإقليمية التي تقف وراء هذا القرار.
إن قرار رئيس الجمهورية ينطوي على الكثير من العناصر التي تجعل منه انقلابا على المؤسسات الدستورية، وإلا لكان قد احترم مقتضيات الدستور، ولم يقدم على حل مؤسسة البرلمان. برلمان يعكس إرادة الشعب، ويمثل على العموم عقدة في حلق المؤسسات العسكرية في المشرق العربي.
لم ننتهي بعد من مقتضيات الفصل 80 من الدستور التونسي، الذي يعد بحق أرفع فصول الدساتير العربية التي نظمت حالة الاستثناء، إذ جاء في الفقرة الثالثة ما يلي:
“بعد مضيّ 30 يومًا على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو 30 من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه”، أي أن صلاحيات رئيس الجمهورية ليست مطلقة، وإنما منحه المشرع الدستوري مهلة 30 يوما لاسترجاع الوضع الطبيعي للبلاد، هذا ما يستشف من منح المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس النواب أو من ثلاثين عضوا من أعضائه النظر في استمرارية حالة الاستثناء من عدمها، أي أن المشرع الدستوري منح للبرلمان عبر المحكمة الدستورية إمكانية وقف حالة الاستثناء. نشير إلى أن الفقرة الأخيرة من الفصل 80 قد حددت للمحكمة الدستورية سقفا زمنيا لا يتعدى 15 يوما لاتخاذها قرارا علنيا بخصوصه.
الآن يتضح لنا السبب الذي دفع رئيس الجمهورية إلى اتخاذ قراره، والأكيد أنه قرار لا يتخده بشكل انفرادي، بحل مؤسسة البرلمان. الرجل محنك، إنه عازم على اخذ البلاد نحو فترة مجهولة من حالة الاستثناء تحضيرا للمرحلة المقبلة، وعنوانها للرئيسي طرد الإسلاميين، وتحديدا حركة النهضة من الملعب السياسي؛ ولهذا أيضا رفع الحصانة عن نوابه، قصد متابعة كل من سيعارض هذا القرار. إنها النسخة الثانية من السيناريو المصري، مع تعديل طفيف.