نيوز بلوس
عزالدين سعيد الأصبحى
__
للكاتب اليمنى الراحل محمد أحمد عبدالولى قصة قصيرة هى واحدة من أبرز قصص هذا الكاتب المدهش (الأطفال يشيبون عند الفجر ). و محمد عبدالولى يعد من أبرز من فتحوا الطريق أمام الإبداع الروائى فى اليمن وأكثر من ترك أثرا فى أجيال متعاقبة من الكتاب، ومقتل الكاتب المدهش هذا بحد ذاته يعد حدثا يحتاج رواية بعمق الجرح اليمانى الغارق فى دوامة العنف العجيبة. فقد قتل الكاتب ضمن كوكبة من الشباب فى تحطم طائرة كان فيها نخبة شباب السياسة والأدب فى اليمن عام 1973، وتلك حكاية أخرى لها وقتها. ولكن أعود إلى العنوان المدهش للقصة التى كانت ولاتزال واحدة من لوحات الإبداع التى رسمت ملامح طريق جيلنا ، أولئك الصغار الذين يكبرون قبل الأوان بسبب الأحداث الجسام، وتلك التحولات الكبرى من ثورات وصراعات والتى واجهت شبابا صغيرا متطلعا للحياة، جاء محملا بالفرح فإذا به محاط بأسوار الموت.
كانت الستينيات التى يتحدث عنها الكاتب مرحلة الاستقلال الأول ( كما احب أن اسميه ) فى معظم اقطارنا العربية، ومرحلة أفق جديد وحلم سحر معه شباب صغير فى مقتبل العمر ولكنه كان كبيرا فى العطاء وتحمل المسئولية. ومضى ذلك الجيل و تحول الحلم إلى كابوس فى أكثر من بلد، وصار كل شيء يشيخ ويصيبه العجز والكسل.
وفى نقاش شبابى هذا الأسبوع سعدت أن أستمع إليه بقدر ما أحزننى واقع الحال المؤلم، اختصر أحد الشباب حديثه إلى جيل من الآباء الحاضرين ، وقال إن شباب اليوم الصغير لم يعد يكترث إلى حديث المباهاة الذى طالما يظهرها الآباء عند استعادة الذكريات ومعاناتهم وتضحياتهم ، منذ الستينيات وحتى التسعينيات (مرحلة الاستقلال الأول وتعثراته فى الوطن العربي). فقد أظهر واقع الحال المعيش أن الشباب الصغير اليوم، والذى لايزال فى عقده الثانى، عاش فى السنوات العشر الماضية فقط تجارب ومعاناة توازى ماعاشه الجيل السابق لقرن كامل، ( ربما هى مرحلة تبحث عن انعتاق جديد للأمة )، فقد رأوا وعاشوا معاناة مستمرة يصعب على مؤرخ أن يكتبها لذا لم تدون أحداثها بعد بالدقة والعمق المطلوبين. ورأيتنى أقلب الأمر محاصرا بأحداث عقد من السنين مثقلة كأنها لقرن كامل. مرحلة البحث عن مخارج عدة من مزالق متعددة وقعنا فيها.
نعم فى عشر سنوات لاغير قامت ثورات وسقطت أنظمة واشتعلت حروب لا تزال قائمة، حروب لم يعرف مثلها الجيل السابق.
حيث لم تقتصر الأمور على مواجهات عسكرية، بل هى حروب على كل الاصعدة عسكرية واقتصادية وإعلامية ونفسية، هذا الجيل شهد أكبر عملية لجوء فى التاريخ، وأكبر انهيار للنظام والقيم، وشهد مآسى تشظ وانقسامات مجتمعية لا توصف، وحروب مياه وتدميرا للمناخ، وإغلاق مدن، وانهيار عملات وجوعا لايوصف.
ولم يكتف الدهر منهم بذلك بل زادت الاوبئة، وظهر فيروس كورونا وتحوراته، وساد القهر فى البر والبحر. وعندما فٌردت أمام المشاركين خريطة الوطن العربى فى النقاش على الجدار ووضعت علامات على بلدان من فلسطين إلى سوريا والعراق واليمن وليبيا وتونس ولبنان والصومال ودول عدة، ووضعت فيما يشبه التمرين نقاط حمراء على سنوات الأحداث لعقد واحد فقط لمختلف الدول تحولت الخريطة إلى غربال من النقاط الحمراء، وكأنها ثقوب دامية فى قلب منهك لا ورقة على جدار فى غرفة نقاش.
ولكن عندما تستمع لجيل المعاناة تدرك أن هناك وعيا متقدما، وهو ما يبعث على أمل ولو بسيط فى هذا السواد ما يعنى أن جيلا يولد من رحم المعاناة يقدم رؤى ستُخرج يوما هذا الواقع الأليم من مأزقه. فالشباب يحمل رؤى خارج صندوق التقليد وبعيدا عن دوائر الإحباط.
وقد قالت العرب يوما: عليكم بمشاورة الأحداث فإنهم ينتجون رأيا لم يفلَّهُ طول القِدَم ولا استولت عليه رطوبة الهرَم”.
وقال حكيم : عليكم بحديث السِّنِّ، حديد الذِّهن. وحسب ما ذكره ابن عبدالبر فى جامع بيان العلم فقد قال: «لا تَحْقِرُوا أنْفُسَكُمْ لِحَداثَةِ أسْنانِكُمْ؛ فَإنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ كانَ إذا نَزَلَ بِهِ الأمْرُ المُعْضِلُ دَعا الفِتْيانَ فاسْتَشارَهُمْ يَبْتَغِى حِدَّةَ عُقُولِهِمْ». حقا نحتاج إلى روح متقده تخرج هذه الأمة من حفرة العجز، إنها أمة تشيخ بفعل محدودية الخيال.
لا أميل إلى الاندفاعات المجنونة، بل أنا مؤمن بضرورة ترسيخ المؤسسات، ولكن نحن بحاجة إلى إشراك العقول التى تدرك خطورة التحولات الكبرى التى يعيشها العالم، حيث ندخل قرن التحولات المتجاوزة للثورة الصناعية نحو الثورة الرقمية والسرعة التى لا تقاس، ومواكبة ذلك بحاجة إلى روح شابه وعقول متقدة، واستدرك موضحا أن ذلك لا يعنى حداثة السن، بل شباب العقل والروح، فلدينا شباب صغير وقع ضحية تضليل واسعة لذا تراه أكثر انغلاقا وتخلفا عن سابقيه، يعيش حالة استلاب زمانى مخيف. فالشباب ليس مرحلة عمرية من وجهة نظرى بل حالة ذهنية ونفسية لذا رأينا شبابا صغيرا مشدودين للماضى ولا يغادرون دائرة وهم استعادة مجد غابر . لقد هرمنا من تلك النظرة التى تشد أمتنا للوراء دوما حتى رأينا مجتمعات بحالها تسير واعناقها ملوية للخلف، تنظر وراءها، فتصطدم بجدار الحداثة والواقع وتندق معها اعناق شعب لم تفتح له آفاق مستقبل العصر. نحن بحاجة إلى إيقاد روح شباب متمرد على العجز وثورة للعقل قبل أن يقتله الكسل. جيل يصنع الاستقلال الثانى نحو آفاق العصر.