نيوز بلوس/الرباط
«في ظلال القرآن» كتاب تفسير اشتهر بين المسلمين في العصر الحديث واهتم به العلماء والباحثون والدعاة إلى الله، وأقبلوا على قراءته وتحقيقه واستنباط المقاصد العقدية والشرعية منه وأبدى آخرون رأيهم فيه فانقسموا إلى محب غال ومقتر مفرط غال في التقتير.
فأما الصنف الأول فرأى أن “الظلال” من أجل كتب التفسير وأكثرها نفعا وأعذبها أسلوبا وبلاغة وأدقها تصويراً وحبكاً، فمؤلفه أديب وشاعر عملاق ولغوي ناقد بارز، ومفسر جياش صاحب المشاعر والأحاسيس الصادقة والتعابير الهادفة وأحد الذين اهتموا بوحدة النسق القرآني الذي يعتبر أن القرآن وحدة متكاملة يفسر بعضه بعضا وهو أيضا المفكر والفيلسوف صاحب الحكم والمنظر المطلع… إلى غير ذلك من الأوصاف الحميدة التي يعجز عن تتبعها كل قارئ منصف.
وأما الصنف الثاني فرأى أن السيد قطب غلب عليه وهو يفسر كتاب الله تكفير المجتمعات ووصفهم بالجاهلية وأنهم ابتعدوا عن حكم الله وشريعته، فهم أشبه بما كانت عليه الإنسانية قبل مجيء الإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمة للعالمين. بالإضافة إلى أن الكثير من تفسيره كان في السجن، وتحت ضغوط نفسية وظروف سياسية صعبة جعلته يتطرف في إصدار الكثير من الأحكام وهو يفسر بعض الآيات التي تتحدث عن الحاكمية وعلاقة الحاكم بالمحكومين. هذه هي بعض آراء كلا الطرفين والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على ما يحتله هذا
التفسير من مكانة بين المسلمين عامة وبين العلماء والمفكرين والباحثين خاصة.
لقد جمع هذا التفسير الضخم جوانب مختلفة أدبية وبلاغية واجتماعية وعقدية تجعل قارئه ودارسه أمام رجل قرآني بامتياز، هذا الرجل الذي عاش مع القرآن لحظة لحظة، وسورة سورة، وآية آية، يتدبرها ويطيل التفكر والتأمل فيها (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (1). يقف على تلك الروح الصادقة بتلك الكلمات الجميلة والعبارات المؤثرة الرنانة والمعاني التي كان له السبق ـ بعد فضل الله ـ على إيرادها والوقوف عليها .
وتعتبر مقدمة تفسير “الظلال” شاهدة وناطقة على هذا الصدق في التعبير الذي عاشه صاحب الظلال، فأول ما بدأ به رحمه الله: ذكره لهذه النعمة الجليلة، وما أكثر النعم التي م َّن الله بها على عباده، نعمة البركة والإحساس بالتكريم الإلهي لهذا الإنسان الذي عندما يقبل على ربه وخالقه فإنه يستشعر ويتذوق مقام العبودية له سبحانه الذي يتناسق بين حركة الإنسان وحركة الكون الذي خلقه تعالى على غير مثال سابق. هذا الإنسان السوي الذي يرفض العبث والانحراف والشر والقيم الفاسدة يجد نفسه وهي تستجيب لنداء الفطرة السلمية فطرة الله التي فطر الناس عليها.
كما تعتبر هذه المقدمة أيضا منظاراً رأى من خلاله صاحب هذا التفسير الوجود على حقيقته بل أكبر في حقيقته وأكبر في تعدد جوانبه وأن الجزاء الحقيقي لأعمال الإنسان ليس ما يناله في هذه الدنيا الفانية وإنما في الحياة الباقية التي أمر هذا الإنسان بالإيمان بها والاستعداد لها بكل ما يملك وما سخر له في هذا الوجود.
لقد بينت مقدمة الظلال حقيقة هذه الحياة التي عاشها سيد قطب ـ رحمه الله وهو يتدبر كلام الله جل جلاله فأيقن ألا وجود للعبثية ولا للمصادفة، بل إن الله تعالى خلق كل شيء فقدره تقديرا، وأن من وراء خلق الخلائق بل كل الكون، حكمة وغاية أرادها الله تعالى وبعث لأجلها الأنبياء والرسل عليهم السلام وأمرهم أن يبلغوها للناس ليعيشوا سعداء مطمئنين بعيدين عن كل ضيق ومشقة وتعاسة: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) (2) .إن سنن الله لا تحابي أحداً، بل إن وراء هذه السنن إرادة مدبرة، إرادة إلاه قوي يخلق ما يشاء ويختار، هو الذي اختار لهذا الإنسان منهاجاً ربانيا متكاملا يستجيب لرغباته ويحقق آماله وتطلعاته ويستفيد من طاقاته التي أودعها الله فيه ليرتفع إلى أقصى درجات الكمال بفطرته السليمة التي تصمد أمام المذاهب الأرضية المتعسفة والمصطنعة (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (3) .
كما بينت مقدمة الظلال أيضا صدق معتقد سيد قطب ـ رحمه الله ـ المتمثل في الحكم على منهج الله بالحق لأن الله تعالى هو الحق: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما تدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير) (4). لقد آن الأوان لهذا الحق أن يظهر وأن هذه المذاهب البشرية المصطنعة التي فشلت في إسعاد الإنسان أن تزهق لأنها من الباطل وكل باطل لابد أن يزول (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (5) إنه لا صلاح لهذه الأرض، ولا راحة لهذه البشرية، ولا طمأنينة لهذا الإنسان، ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة… إلا بالرجوع إلى الله، نعم بالرجوع إليه سبحانه، وهذه هي الخلاصة التي انتهى إليها سيد قطب وهو يعيش حياته في ظلال القرآن.
إن من حق الإنسان كل إنسان أن يتساءل متى تشعر البشرية بالسعادة؟ وماذا يترتب عن إبعاد الإسلام من الحياة؟ والجواب وبكل يقين ومن مقدمة الظلال دائما هو أن البشرية المسكينة الحائرة لن تجد الهدى والراحة والسعادة إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الذي أتقن كل شيء فقدره تقديرا وقد عاشت البشرية بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخرجها من ظلمات الجهل إلى النور وقادها بالنور الذي أنزل عليه إلى حياة مختلفة تماما عن فوضى حياة الجاهلية.
إن مقدمة الظلال تلهج وبصوت صادق أن منهج الله قرآنا وشريعة ليس عدواً لأحد وليس عدواً للإبداع الإنساني: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) (6). فليس من خصائص هذا المنهج تعطيل الطاقات ولا كبت الحريات ولا نسف الإبداعات، بل بالعكس، فقد فتح المجال لكل ما من شانه أن ينهض بالإنسان إلى مقام الخلافة في الأرض والاستقامة على عبادة الله وشريعته لأن الشريعة هي ثمرة الإيمان، لا تقوم وحدها بغير أصلها الكبير، فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم، كما أنها موضوعة لتساهم في بناء المجتمع المسلم” (7). هذا المجتمع الذي يختلف بآثاره الحضارية وقيمه العالية وقوانينه العادلة عن الحضارة المادية التي انبهر بها الإنسان المعاصر فانسلخ عن أصله وفطرته وصار يلهث وراءها وكأنها الخلاص والمنقذ من الضلال.
إن الحقيقة التي يجب أن يعيشها كل مسلم مؤمن برب هذا الكون والمتحكم في حركاته وسكناته وكل شيء فيه هي أن الحياة مزرعة وقنطرة للآخرة، بها يعبر المؤمن إلى ما أعده الله له من جنات ونهر وأن ما يناله الإنسان في هذه الحياة أو الأرض ليس نصيبه كله، إنما قسط من ذلك، وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته
هناك، فلا ظلم ولا بخس و لا ضياع ” (8).
هكذا تحدث سيد قطب ـ رحمه الله ـ في مقدمة تفسيره عن الحياة “في ظلال القرآن” المقدمة الجميلة التي جاءت مختلفة ع ّما كان يسطره كثير من المفسرين وما يضعونه من مناهج يسلكونها في تفسيرهم، فهو رحمه الله ـ لم يذكر أنه ف ّسر القرآن بالقرآن ولا القرآن بالسنة ولا القرآن بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم جميعا، ولا بأقوال السلف وإن كان تفسره مليء بكل هذه القواعد الأساسية في التفسير، ولكن كانت مقدمة جمعت خواطر جميلة وانطباعات عاشها السيد وهو يتلو ويتدبر كلام الله في زنزانته، اختلى بربه ساجداً وقائما بين يديه سبحانه:(تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون) (9).
الهوامش:
1. سورة محمد، الآية: 25. 3
2. سورة طه، الآية: 122. 3. سورة الروم، الآية: 29. 4. سورة الحج، الآية: 60. 5. سورة الرعد، الآية: 19.
6. سورة يوسف، الآية: 108. 7. سيد قطب: في ظلال القرآن، م: 1، ص: 17. 8. سيد قطب: في ظلال القرآن، م: 1، ص: 11. 9. سورة السجدة: الآية: 16.
رضوان الرميلي | أستاذ